سورة البقرة - تفسير تفسير الشوكاني

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (البقرة)


        


{الم} قال القرطبي في تفسيره: اختلف أهل التأويل في الحروف التي في أوائل السور، فقال الشعبي، وسفيان الثوري، وجماعة من المحدثين: هي: سرّ الله في القرآن، ولله في كل كتاب من كتبه سرّ، فهي من المتشابه الذي انفرد الله بعلمه، ولا نحبّ أن نتكلم فيها، ولكن نؤمن بها، وتُمَرُّ كما جاءت، وروي هذا القول عن أبي بكر الصديق، وعليّ ابن أبي طالب، قال: وذكر أبو الليث السمرقندي عن عمر، وعثمان، وابن مسعود، أنهم قالوا: الحروف المقطعة من المكتوم الذي لايفسر، وقال أبو حاتم: لم نجد الحروف في القرآن إلا في أوائل السور، ولا ندري ما أراد الله عزّ وجل.
وقال: جمع من العلماء كثير: بل نحبّ أن نتكلم فيها، ونلتمس الفوائد التي تحتها، والمعاني التي تتخرج عليها.
واختلفوا في ذلك على أقوال عديدة، فروي عن ابن عباس، وعليّ أيضاً أن الحروف المقطعة في القرآن اسم الله الأعظم إلا أنا لا نعرف تأليفه منها.
وقال قُطْرُب، والفراء، وغيرهما: هي: إشارة إلى حروف الهجاء أعلم الله بها العرب حين تحدّاهم بالقرآن أنه مؤتلف من حروف هي: التي بناء كلامهم عليها؛ ليكون عجزهم عنه أبلغ في الحجة عليهم إذ لم يخرج عن كلامهم. قال قطرب: كانوا ينفرون عند استماع القرآن، فلما نزل: {الما،} و{المصا} [الأعراف: 1] استنكروا هذا اللفظ، فلما أنصتوا له صلى الله عليه وسلم أقبل عليهم بالقرآن المؤتلف؛ ليثبته في أسماعهم، وآذانهم، ويقيم الحجة عليهم.
وقال قوم: روي أن المشركين لما أعرضوا عن القرآن بمكة قالوا {وَقَالُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرءان والغوا فِيهِ} [فصلت: 26] فأنزلها استغربوها، فيفتحون أسماعهم، فيسمعون القرآن بعدها، فتجب عليهم الحجة.
وقال جماعة: هي حروف دالة على أسماء أخذت منها، وحذفت بقيتها، كقول ابن عباس، وغيره الألف من الله، واللام من جبريل، والميم من محمد.
وذهب إلى هذا الزجاج، فقال: وذهبوا إلى أن كل حرف منها يؤدي عن معناه!.
وقد تكلمت العرب بالحروف المقطعة كقوله:
فقلت لها قفى، فقالت قاف ***
أي وقفت. وفي الحديث: «من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة» قال شقيق: هو أن يقول فقرة في اقتل: اق، كما قال صلى الله عليه وسلم: «كفى بالسيف شا» أي شافياً، وفي نسخة شاهداً.
وقال زيد بن أسلم: هي أسماء للسور.
وقال الكلبي: هي أقسام أقسم الله بها لشرفها وفضلها وهي من أسمائه.
ومن أدقّ ما أبرزه المتكلمون في معاني هذه الحروف ما ذكره الزمخشري في الكشاف، فإنه قال: وأعلم أنك إذا تأملت ما أورده الله عزّ سلطانه في الفواتح من هذه الأسماء وجدتها نصف أسامي حروف المعجم أربعة عشر سواء: وهي الألف، واللام، والميم، والصاد، والراء، والكاف، والهاء، والياء، والعين، والطاء، والسين، والحاء، والقاف، والنون في تسع وعشرين سورة على عدد حروف المعجم، ثم إذا نظرت في هذه الأربعة عشر، وجدتها مشتملة على أنصاف أجناس الحروف.
بيان ذلك أن فيها من المهموسة نصفها: الصاد، والكاف، والهاء، والسين، والحاء، ومن المجهورة نصفها الألف، واللام، والميم، والراء، والعين، والطاء، والقاف، والياء، والنون، ومن الشديدة نصفها: الألف، والكاف، والطاء، والقاف، ومن الرخوة نصفها: اللام، والميم، والراء، والصاد، والهاء، والعين، والسين، والحاء، والياء، والنون، ومن المطبقة نصفها: الصاد، والطاء، ومن المنفتحة نصفها: الألف، والام، والميم، والراء، والكاف، والهاء، والعين، والسين، والحاء، والقاف، والياء، والنون، ومن المستعلية نصفها: القاف، والصاد، والطاء، ومن المنخفضة نصفها: الألف واللام والميم، والراء، والكاف، والهاء، والتاء، والعين، والسين، والحاء، والنون، ومن حروف القلقة نصفها: القاف، والطاء، ثم إذا استقريت الكلم، وتراكيبها رأيت الحروف التي ألغى الله ذكرها من هذه الأجناس المعدودة مكنوزة بالمذكورة منها، فسبحان الذي دقت في كل شيء حكمته، وقد علمت أن معظم الشيء وجُلَّه ينزل منزلة كله، وهو المطابق للطائف التنزيل، واختصاراته، فكأن الله عزّ اسمه عدّد على العرب الألفاظ التي منها تراكيب كلامهم إشارة إلى ما ذكرت من التبكيت لهم، وإلزام الحجة إياهم، وما يدل على أنه تعمد بالذكر من حروف المعجم أكثرها، وقوعاً في تراكيب الكلم، ان الألف، واللام لما تكاثر، وقوعهما فيها جاءتا في معظم هذه الفواتح مكررتين، وهي فواتح سورة البقرة، وآل عمران، والروم، والعنكبوت، ولقمان، والسجدة، والأعراف، والرعد، ويونس، وإبراهيم، وهود، ويوسف، والحجر. انتهى.
وأقول: هذا التدقيق لا يأتي بفائدة يعتدّ بها، وبيانه أنه إذا كان المراد منه إلزام الحجة، والتبكيت كما قال، فهذا متيسر بأن يقال لهم: هذا القرآن هو من الحروف التي تتكلمون بها ليس هو من حروف مغايرة لها، فيكون هذا تبكيتاً، وإلزاماً يفهمه كل سامع منهم من دون إلغاز، وتعمية، وتفريق لهذه الحروف، في فواتح تسع وعشرين سورة، فإن هذا مع ما فيه من التطويل الذي لا يستوفيه سامعه إلا بسماع جميع هذه الفواتح، هو أيضاً مما لا يفهمه أحد من السامعين، ولا يتعقل شيئاً منه فضلاً عن أن يكون تبكيتاً له وإلزاماً للحجة أياً كان، فإن ذلك هو أمر وراء الفهم مترتب عليه، ولم يفهم السامع هذا، ولا ذكر أهل العلم عن فرد من أفراد الجاهلية الذين وقع التحدي لهم بالقرآن، أنه بلغ فهمه إلى بعض هذا فضلاً عن كله. ثم كون هذه الحروف مشتملة على النصف من جميع الحروف التي تركبت لغة العرب منها، وذلك النصف مشتمل على أنصاف تلك الأنواع من الحروف المتصفة بتلك الأوصاف هو أمر لا يتعلق به فائدة لجاهلي، ولا إسلامي، ولا مقرّ، ولا منكر، ولا مسلم، ولا معارض، ولا يصح أن يكون مقصداً من مقاصد الرّب سبحانه، الذي أنزل كتابه للإرشاد إلى شرائعه، والهداية به.
وهب أن هذه صناعة عجيبة، ونكتة غريبة، فليس ذلك مما يتصف بفصاحة، ولا بلاغة حتى يكون مفيداً أنه كلام بليغ، أو فصيح، وذلك لأن هذه الحروف الواقعة في الفواتح ليست من جنس كلام العرب حتى يتصف بهذين الوصفين، وغاية ما هناك أنها من جنس حروف كلامهم، ولا مدخل لذلك فيما ذكر. وأيضاً لو فرض أنها كلمات متركبة بتقدير شيء قبلها، أو بعدها لم يصح وصفها بذلك، لأنها تعمية غير مفهومة للسامع إلا بأن يأتي من يريد بيانها بمثل ما يأتي به من أراد بيان الألغاز، والتعمية، وليس ذلك من الفصاحة، والبلاغة في ورد، ولا صدر بل من عكسهما، وضد رسمهما، وإذا عرفت هذا، فاعلم أن من تكلم في بيان معاني هذه الحروف جازماً بأن ذلك هو ما أراده الله عزّ وجل، فقد غلط أقبح الغلط، وركب في فهمه ودعواه أعظم الشطط، فإنه إن كان تفسيره لها بما فسرها به راجعاً إلى لغة العرب، وعلومها فهو كذب بحت، فإن العرب لم يتكلموا بشيء من ذلك، وإذا سمعه السامع منهم كان معدوداً عنده من الرَّطَانة، ولا ينافي ذلك أنهم قد يقتصرون على أحرف، أو حروف من الكلمة التي يريدون النطق بها، فإنهم لم يفعلوا ذلك إلا بعد أن تقدمه ما يدل عليه، ويفيد معناه، بحيث لا يلتبس على سامعه كمثل ما تقدم ذكره. ومن هذا القبيل ما يقع منهم من الترخيم، وأين هذه الفواتح الواقعة في أوائل السور من هذا؟ وإذا تقرر لك أنه لا يمكن استفادة ما ادّعوه من لغة العرب، وعلومها لم يبق حينئذ إلا أحد أمرين:
الأوّل التفسير بمحض الرأي الذي ورد النهي عنه، والوعيد عليه، وأهل العلم أحق الناس بتجنبه، والصدّ عنه، والتنكُّب عن طريقه، وهم أتقى لله سبحانه من أن يجعلوا كتاب الله سبحانه ملعبةً لهم يتلاعبون به، ويضعون حماقات أنظارهم، وخُزَعْبَلات أفكارهم عليه.
الثاني التفسير بتوقيف عن صاحب الشرع، وهذا هو المهيع الواضح، والسبيل القويم، بل الجادة التي ما سواها مردوم، والطريقة العامرة التي ما عداها معدوم، فمن وجد شيئاً من هذا، فغير ملوم أن يقول بملء فيه، ويتكلم بما وصل إليه علمه، ومن لم يبلغه شيء من ذلك فليقل لا أدري، أو الله أعلم بمراده، فقد ثبت النهي عن طلب فهم المتشابه، ومحاولة الوقوف على علمه مع كونه ألفاظاً عربية، وتراكيب مفهومة، وقد جعل الله تتبع ذلك صنيع الذين في قلوبهم زيغ، فكيف بما نحن بصدده؟ فإنه ينبغي أن يقال فيه إنه متشابه المتشابه على فرض أن للفهم إليه سبيلاً، ولكلام العرب فيه مدخلاً، فكيف وهو خارج عن ذلك على كل تقدير.
وانظر كيف فهم اليهود عند سماع {ألم} فإنهم لما لم يجدوها على نمط لغة العرب فهموا أن الحروف المذكورة رمز إلى ما يصطلحون عليه من العدد الذي يجعلونه لها، كما أخرج ابن إسحاق، والبخاري في تاريخه، وابن جرير بسند ضعيف عن ابن عباس، عن جابر بن عبد الله قال: «مرّ أبو ياسر بن أخْطَبَ في رجالٍ من يهود برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يتلو فاتحة سورة البقرة {الم ذلك الكتاب لاَ رَيْبَ} فأتى أخاه حُيَيَّ بن أخطب في رجال من اليهود فقال: تعلمون، والله لقد سمعت محمداً يتلو فيما أنزل عليه {آلم ذلك الكتاب} فقال: أنت سمعته؟ فقال نعم، فمشى حُيَيَّ في أولئك النفر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا محمد ألم تذكر أنك تتلو، فيما أنزل عليك {الم ذلك الكتاب} قال: بلى، قالوا: أجاءك بهذا جبريل من عند الله؟ قال: نعم قالوا: لقد بعث الله قبلك الأنبياء ما نعلمه بيَّن لنبي منهم ما مدّة ملكه، وما أجَلُ أمته غيرك، فقال حُيَيُّ بن أخطب: وأقبل على من كان معه الألف، واحد، واللام ثلاثون، والميم أربعون، فهذه إحدى، وسبعون سنة، أفتدخلون في دين نبيّ إنما مدّة ملكه، وأجل أمته إحدى وسبعون سنة؟ ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد هل مع هذا غيره؟ قال: نعم، قال: وما ذاك؟ قال: {المص} قال: هذه أثقل، وأطول الألف، واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون، والصاد تسعون، فهذه إحدى وستون ومائة سنة، هل مع هذا يا محمد غيره؟ قال: نعم، قال: وما ذاك؟ قال: {الر} قال: هذه أثقل، وأطول الألف، واحدة، واللام ثلاثون، والراء مائتان، هذه إحدى وثلاثون سنة ومائتان، فهل مع هذا غيره؟ قال: نعم {المر} قال: فهذه أثقل، وأطول الألف، واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون، والراء مائتان، فهذه إحدى وسبعون سنة ومائتان، ثم قال: لقد لُبِّس علينا أمرك يا مُحمدُ حتى ما ندري قليلاً أعطيت أم كثيراً، ثم قاموا»، فقال أبو ياسر لأخيه حُييّ، ومن معه من الأحبار: ما يدريكم لعله قد جمع هذا لمحمد كله إحدى وسبعون وإحدى وستون ومائة وإحدى وثلاثون ومائتان وإحدى وسبعون ومائتان، فذلك سبعمائة وأربع وثلاثون سنة، فقالوا: لقد تشابه علينا أمره، فيزعمون أن هذه الآيات نزلت فيهم: {هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكتاب وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتُ} [آل عمران: 7]
فانظر ما بلغت إليه أفهامهم من هذا الأمر المختص بهم من عدد الحروف، مع كونه ليس من لغة العرب في شيء، وتأمل أيّ موضع أحق بالبيان من رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الموضع، فإن هؤلاء الملاعين قد جعلوا ما فهموه عند سماع {الم ذلك الكتاب} من ذلك العدد موجباً للتثبيط عن الإجابة له، والدخول في شريعته، فلو كان لذلك معنى يعقل، ومدلولٌ يفهم، لدفع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ظنوه بادئ بدء حتى لا يتأثر عنه ما جاءوا به من التشكيك على من معهم.
فإن قلت: هل ثبت عن رسول الله في هذه الفواتح شيء يصلح للتمسك به؟ قلت: لا أعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تكلم في شيء من معانيها، بل غاية ما ثبت عنه هو مجرد عدد حروفها، فأخرج البخاري في تاريخه، والترمذي وصححه والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول ألم حرف، ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف» وله طرق عن ابن مسعود.
وأخرج ابن أبي شيبة، والبزار بسند ضعيف عن عوف بن مالك الأشجعي نحوه مرفوعاً.
فإن قلت: هل روي عن الصحابة شيء من ذلك بإسناد متصل بقائله أم ليس إلا ما تقدم من حكاية القرطبي عن ابن عباس وعليّ؟ قلت: قد روى ابن جرير والبيهقي في كتاب الأسماء والصفات عن ابن مسعود أنه قال: {آلم} أحرف اشتقت من حروف اسم الله.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، عن ابن عباس في قوله: {آلم} و{حم} و{ن} قال: اسم مقطع.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في كتاب الأسماء عن ابن عباس أيضاً في قوله: {الم} {والمصا} {وآلر} و{المر} و{كهعيصا} و{وطه} و{طسما} و{وطس} و{ويس} و{وص} و{وحم} و{تَعْمَلُونَ ق} و{ن} قال: هو قسم أقسمه الله، وهو: من أسماء الله.
وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود في قوله: {آلم} قال: هي: اسم الله الأعظم.
وأخرج عبد بن حميد عن الربيع بن أنس في قوله: {آلم} قال: ألف مفتاح اسمه الله، ولام مفتاح اسمه لطيف وميم مفتاح اسمه مجيد.
وقد روي نحو هذه التفاسير عن جماعة من التابعين فيهم عكرمة والشعبي والسُّدِّي وقتادة ومجاهد والحسن.
فإن قلت: هل يجوز الاقتداء بأحد من الصحابة؟ قال في تفسير شيء من هذه الفواتح قولاً صح إسناده إليه. قلت: لا لما قدمنا، إلا أن يعلم أنه قال ذلك عن علم أخذه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فإن قلت: هذا مما لا مجال للاجتهاد فيه، ولا مدخل للغة العرب، فلم لا يكون له حكم الرفع؟ قلت: تنزيل هذا منزلة المرفوع، وإن قال به طائفة من أهل الأصول وغيرهم، فليس مما ينشرح له صدور المنصفين، ولا سيما إذا كان في مثل هذا المقام، وهو: التفسير لكلام الله سبحانه، فإنه دخول في أعظم الخطر بما لا برهان عليه صحيح إلا مجرد قولهم إنه يبعد من الصحابي كل البعد أن يقول بمحض رأيه فيما لا مجال فيه للاجتهاد، وليس مجرد هذا الاستبعاد مسوّغاً للوقوع في خطر الوعيد الشديد.
على أنه يمكن أن يذهب بعض الصحابة إلى تفسير بعض المتشابه، كما نجده كثيراً في تفاسيرهم المنقولة عنهم ويجعل هذه الفواتح من جملة المتشابه،
ثم ها هنا مانع آخر، وهو أن المروي عن الصحابة في هذا مختلف متناقض فإن عملنا بما قاله أحدهم دون الآخر كان تحكماً لا وجه له، وإن عملنا بالجميع كان عملاً بما هو مختلف متناقض، ولا يجوز.
ثم ها هنا مانع غير هذا المانع، وهو أنه لو كان شيء مما قالوه مأخوذاً عن النبي صلى الله عليه وسلم لاتفقوا عليه ولم يختلفوا كسائر ما هو مأخوذعنه، فلما اختلفوا في هذا علمنا أنه لم يكن مأخوذا عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم لو كان عندهم شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا لما تركوا حكايته عنه ورفعه إليه، لا سيما عند اختلافهم واضطراب أقوالهم في مثل هذا الكلام الذي لا مجال للغة العرب فيه ولا مدخل لها.
والذي أراه لنفسي ولكل من أحبّ السلامة واقتدى بسلف الأمة ألا يتكلم بشيء من ذلك، مع الاعتراف بأن في إنزالها حكمة لله عزّ وجل لا تبلغها عقولنا ولا تهتدي إليها أفهامنا، وإذا انتهيت إلى السلامة في مداك فلا تجاوزه، وسيأتي لنا عند تفسير قوله تعالى: {مِنْهُ آيات محكمات هُنَّ أُمُّ الكتاب وَأُخَرُ متشابهات} [آل عمران: 7] كلام طويل الذيول، وتحقيق تقبله صحيحات الأفهام وسليمات العقول.


الإشارة بقوله: {ذلك} إلى الكتاب المذكور بعده. قال ابن جرير: قال ابن عباس: {ذلك الكتاب} هذا الكتاب وبه قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والسدي ومقاتل وزيد بن أسلم وابن جريج، وحكاه البخاري عن أبي عبيدة. والعرب قد تستعمل الإشارة إلى البعيد الغائب مكان الإشارة إلى القريب الحاضر كما قال خفاف:
أقول له والرمحُ يأطر مَتنهُ *** تأمل خِفافاً أنني أنا ذلِكا
أي: أنا هذا، ومنه قوله تعالى: {ذلك عَالِمُ الغيب والشهادة العزيز الرحيم} [السجدة: 6] {وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ آتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ على قَوْمِهِ} [الأنعام: 83] {تِلْكَ آيات الله نَتْلُوهَا عَلَيْكَ} [البقرة: 252، وآل عمران: 108، والجاثية: 6] {ذَلِكُمْ حُكْمُ الله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} [الممتحنة: 10] وقيل: إن الإشارة إلى غائب، واختلف في ذلك الغائب، فقيل: هو: الكتاب الذي كتب على الخلائق بالسعادة والشقاوة، والأجل والرزق.
{لاَ رَيْبَ فِيهِ} أي لا مبدل له، وقيل ذلك الكتاب الذي كتبه الله على نفسه في الأزل؛ أن رحمته سبقت غضبه، كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما قضى الله الخلق كتب في كتاب على نفسه، فهو موضوع عنده إن رحمتي تغلب غضبي» وفي رواية: «سبقت». وقيل الإشارة إلى ما قد نزل بمكة، وقيل إلى ما في التوراة والإنجيل، وقيل إشارة إلى قوله قبله {آلم} ورجحه الزمخشري، وقد وقع الاختلاف في ذلك إلى تمام عشرة أقوال حسبما حكاه القرطبي وأرجحها ما صدَّرناه،
واسم الإشارة مبتدأ، و{الكتاب} صفته، والخبر {لا ريب فيه} ومن جوّز الابتداء ب {آلم} جعل {ذلك} مبتدأ ثانياً، وخبره {الكتاب} أو هو صفته، والخبر {لا ريب فيه} والجملة خبر المبتدأ. ويجوز أن يكون المبتدأ مقدّراً، وخبره {آلم} وما بعده. والريب مصدر، وهو قلق النفس واضطرابها، وقيل إن الريب: الشك. قال ابن أبي حاتم: لا أعلم في هذا خلافاً.
وقد يستعمل الريب في التهمة والحاجة، حكى ذلك القرطبي. ومعنى هذا النفي العام، أن الكتاب ليس بمظنة للريب؛ لوضوح دلالته وضوحاً يقوم مقام البرهان المقتضى لكونه لا ينبغي الارتياب فيه بوجه من الوجوه،
والوقف على {فيه} هو المشهور.
وقد روي عن نافع وعاصم الوقف على {لاَ رَيْبَ} قال في الكشاف: ولا بدّ للواقف من أن ينوي خبراً، ونظيره قوله تعالى: {قَالُواْ لاَ ضَيْرَ} [الشعراء: 50] وقول العرب: لا بأس، وهي كثيرة في لسان أهل الحجاز، والتقدير: لا ريب فيه فيه هدى.
والهدى مصدر. قال الزمخشري: وهو: الدلالة الموصلة إلى البغية بدليل وقوع الضلال في مقابلته انتهى. ومحله الرفع على الابتداء وخبره الظرف المذكور قبله على ما سبق. قال القرطبي: الهدى هديان: هدى دلالة وهو الذي يقدر عليه الرسل وأتباعهم، قال الله تعالى: {وَلِكُلّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد: 7] وقال: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52] فأثبت لهم الهدى الذي معناه الدلالة والدعوة والتنبيه، وتفرد سبحانه بالهدى الذي معناه التأييد والتوفيق، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56] فالهدى على هذا يجيء بمعنى خلق الإيمان في القلب، ومنه قوله تعالى: {أولئك على هُدًى مّن رَّبّهِمْ} [البقرة: 5] وقوله: {ولكن الله يَهْدِى مَن يَشَاء} [القصص: 56] انتهى.
والمتقين من ثبتت لهم التقوى. قال ابن فارس: وأصلها في اللغة قلة الكلام.
وقال في الكشاف: المتقي في اللغة: اسم فاعل من قولهم وقاه فاتقى، والوقاية: الصيانة، ومنه: فرس واقٍ، وهذه الدابة تقي من وجاورها: إذا أصابها ضلع من غلظ الأرض ورقة الحافر، فهو يقي حافره أن يصيبه أدنى شيء يؤلمه. وهو في الشريعة: الذي يقي نفسه تعاطى ما يستحق به العقوبة من فعل أو ترك. انتهى.
وأخرج ابن جرير والحاكم وصححه عن ابن مسعود؛ أن {الكتاب}: القرآن، {لا ريب فيه}: لا شك فيه.
وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {لا ريب فيه} قال: لا شك فيه.
وأخرج أحمد في الزهد، وابن أبي حاتم، عن أبي الدرداء قال: الريب: الشك.
وأخرج عبد ابن حميد عن قتادة مثله، وكذا ابن جرير عن مجاهد.
وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود في قوله: {هُدًى لّلْمُتَّقِينَ} قال: نور للمتقين، وهم المؤمنون.
وأخرج ابن إسحاق، وابن جرير وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {هُدًى لّلْمُتَّقِينَ} أي: الذين يحذرون من الله عقوبته في ترك ما يعرفون من الهدى ويرجون رحمته في التصديق بما جاء منه، وأخرج ابن أبي حاتم عن معاذ بن جبل أنه قيل له: من المتقون؟ فقال: قوم اتقوا الشرك وعبادة الأوثان وأخلصوا لله العبادة.
وأخرج ابن أبي الدنيا عن أبي هريرة: أن رجلاً قال له: ما التقوى؟ قال: هل وجدت طريقاً ذا شوك؟ قال نعم، قال: فكيف صنعت؟ قال: إذا رأيت الشوك عدلت عنه أو جاوزته أو قصرت عنه، قال: ذاك التقوى.
وأخرج أحمد في الزهد عن أبي الدرداء قال: تمام التقوى أن يتقي الله العبدُ حتى يتقيه من مثقال ذرة حين يترك بعض ما يرى أنه حلال خشية أن يكون حراماً يكون حجاباً بينه وبين الحرام.
وقد روى نحو ما قاله أبو الدرداء عن جماعة من التابعين.
وأخرج أحمد وعبد بن حميد والبخاري في تاريخه والترمذي وحسنه وابن ماجه وابن أبي حاتم والحاكم وصححه، والبيهقي في الشعب عن عطية السعدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذراً لما به البأس» فالمصير إلى ما أفاده هذا الحديث واجب ويكون هذا معنى شرعياً للمتقي أخصّ من المعنى الذي قدمنا عن صاحب الكشاف زاعماً أنه المعنى الشرعي.


هو وصف للمتقين كاشف. والإيمان في اللغة: التصديق، وفي الشرع ما سيأتي. والغيب في كلام العرب: كل ما غاب عنك. قال القرطبي: واختلف المفسرون في تأويل الغيب هنا، فقالت فرقة: الغيب في هذه الآية هو الله سبحانه، وضعفه ابن العربي.
وقال آخرون: القضاء والقدر.
وقال آخرون: القرآن وما فيه من الغيوب.
وقال آخرون: الغيب كل ما أخبر به الرسول مما لا تهتدي إليه العقول من أشراط الساعة، وعذاب القبر، والحشر والنشر، والصراط، والميزان، والجنة، والنار. قال ابن عطية: وهذه الأقوال لا تتعارض بل يقع الغيب على جميعها، قال: وهذا هو: الإيمان الشرعي المشار إليه في حديث جبريل حين قال للنبي صلى الله عليه وسلم: «فأخبرني عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره، وشرّه، قال: صدقت» انتهى. وهذا الحديث هو ثابت في الصحيح بلفظ: «أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والقدر خيره، وشرّه».
وقد أخرج ابن أبي حاتم، والطبراني، وابن منده، وأبو نعيم، كلاهما في معرفة الصحابة عن تويلة بنت أسلم قالت: «صليت الظهر، أو العصر في مسجد بني حارثة، فاستقبلنا مسجد إيليا، فصلينا سجدتين، ثم جاءنا من يخبرنا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استقبل البيت، فتحوّل الرجال مكان النساء، والنساء مكان الرجال، فصلينا السجدتين الباقيتين، ونحن مستقبلون البيت الحرام، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أولئك قوم آمنوا بالغيب».
وأخرج البزار، وأبو يعلى، والحاكم وصححه عن عمر بن الخطاب، قال: كنت جالساً مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «أنبئوني بأفضل أهل الإيمان إيماناً؟» فقالوا: يا رسول الله الملائكة، قال: «هم كذلك، ويحق لهم، وما يمنعهم، وقد أنزلهم الله المنزلة التي أنزلهم بها» قالوا: يا رسول الله الأنبياء الذين أكرمهم الله برسالته، والنبوّة، قال: «هم كذلك، ويحق لهم، وما يمنعهم، وقد أنزلهم الله المنزلة التي أنزلهم بها»؛قالوا: يا رسول الله الشهداء الذين استشهدوا مع الأنبياء، قال: «هم كذلك، وما يمنعهم، وقد أكرمهم الله بالشهادة»؛قالوا: فمن يا رسول الله؟ قال: «أقوام في أصلاب الرجال يأتون من بعدي يؤمنون بي، ولم يروني، ويصدقوني ولم يروني، يجدون الورق المعلق فيعملون بما فيه، فهؤلاء أفضل أهل الإيمان إيماناً» وفي إسناده محمد بن أبي حميد، وفيه ضعف.
وأخرج الحسن بن عرفة في حزبه المشهور، والبيهقي في الدلائل عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر نحو الحديث الأول، وفي إسناده المغيرة بن قيس البصري، وهو منكر الحديث.
وأخرج نحوه الطبراني عن ابن عباس مرفوعاً، والإسماعيلي عن أبي هريرة مرفوعاً أيضاً، والبزار عن أنس مرفوعاً.
وأخرج ابن أبي شيبة في مسنده عن عوف بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا ليتني قد لقيت إخواني. قالوا: يا رسول الله ألسنا إخوانك؟ قال: بلى، ولكن قوم يجيئون من بعدكم يؤمنون بي إيمانكم ويصدقوني تصديقكم وينصروني نصركم، فيا ليتني قد لقيت إخواني».
وأخرج نحوه ابن عساكر في الأربعين السباعية من حديث أنس، وفي إسناده أبو هدبة، وهو كذاب، وزاد فيه: «ثم قرأ النبي {الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب وَيُقِيمُونَ الصلاة} [البقرة: 3] الآية».
وأخرج أحمد، والدارمي، والبارودي، وابن قانع معاً في معجم الصحابة، والبخاري في تاريخه، والطبراني، والحاكم عن أبي جمعة الأنصاري قال: قلت: يا رسول الله هل من قوم أعظم منا أجراً آمنا بك، واتبعناك؟ قال: «ما يمنعكم من ذلك، ورسول الله بين أظهركم يأتيكم بالوحي من السماء؟ بل قوم يأتون من بعدكم يأتيهم كتاب الله بين لوحين فيؤمنون بي، ويعملون بما فيه أولئك أعظم منكم أجراً»
وأخرج أحمد، وابن أبي شيبة، والحاكم، عن أبي عبد الرحمن الجهني قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ طلع راكبان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كنديان أو مَذْحجيان حتى أتيا، فإذا رجلان من مذحج، فدنا أحدهما ليبايعه، فلما أخذ بيده قال: يا رسول الله أرأيت من جاءك فآمن بك، واتبعك، وصدّقك فماذا له؟ قال: طوبى له فمسح على زنده، وانصرف، ثم جاء الآخر حتى أخذ بيده ليبايعه فقال: يا رسول الله أرأيت من آمن بك، وصدّقك، واتبعك، ولم يرك؟ قال: طوبى له ثم طوبى له، ثم مسح على زنده، وانصرف».
وأخرج الطيالسي، وأحمد، والبخاري في تاريخه، والطبراني، والحاكم عن أبي أمامة الباهلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «طوبى لمن رآني، وآمن بي، وطوبى لمن آمن بي، ولم يرني سبع مرات».
وأخرج أحمد، وابن حبان، عن أبي سعيد: أن رجلاً قال: يا رسول الله طوبى لمن رآك، وآمن بك؟ قال: «طوبى لمن رآني، وآمن بي، وطوبى، ثم طوبى، ثم طوبى لمن آمن بي، ولم يرني».
وأخرج الطيالسي، وعبد بن حميد، عن ابن عمر نحوه.
وأخرج أحمد، وأبو يعلى، والطبراني من حديث أنس نحو حديث أبي أمامة الباهلي المتقدّم.
وأخرج سفيان بن عيينة، وسعيد بن منصور، وأحمد بن منيع في مسنده، وابن أبي حاتم، وابن الانباري، والحاكم وصححه عن ابن مسعود، أنه قال: والذي لا إله غيره ما آمن أحد أفضل من إيمان بغيب، ثم قرأ: {الم ذلك الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ}
إلى قوله: {المفلحون} [البقرة: 1 5] وللتابعين أقوال،
والراجح ما تقدم من أن الإيمان الشرعي يصدق على جميع ما ذكر هنا، قال ابن جرير: والأولى أن تكونوا موصوفين بالإيمان بالغيب قولاً، واعتقاداً، وعملاً. قال: وتدل الخشية لله في معنى الإيمان الذي هو: تصديق القول بالعمل والإيمان كلمة جامعة للإقرار بالله، وكتبه، ورسله، وتصديق الإقرار بالفعل.
وقال ابن كثير: إن الإيمان الشرعي المطلوب لا يكون إلا اعتقاداً، وقولاً، وعملاً، هكذا ذهب إليه أكثر الأئمة، بل قد حكاه الشافعي، وأحمد بن حنبل، وأبو عبيد، وغير واحد إجماعاً أن الإيمان قول، وعمل، ويزيد وينقص.
وقد ورد فيه آيات كثيرة. انتهى.
{ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون} هو معطوف على {يؤمنون} والإقامة في الأصل: الدوام والثبات. يقال قام الشيء: أي دام وثبت. وليس من القيام على الرجل، وإنما هو من قولك قام الحق. أي: ظهر وثبت. قال الشاعر:
وقامت الحرب بنا على ساق ***
وقال آخر:
وإذا يقال أقيموا لم تبرحوا *** حتى تقيم الخيل سوق طعان
وإقامة الصلاة أداؤها بأركانها، وسننها، وهيئاتها في أوقاتها. والصلاة أصلها في اللغة: الدعاء من صلى يصلي إذا دعا.
وقد ذكر هذا الجوهري، وغيره.
وقال قوم: هي مأخوذة من الصلا، وهو عرق في وسط الظهر، ويفترق عند العُجْب. ومنه أخذ المصلي في سبق الخيل؛ لأنه يأتي في الحلبة، ورأسه عند صلوى السابق، فاشتقت منه الصلاة؛ لأنها ثانية للإيمان فشبهت بالمصلي من الخيل، وإما لأن الراكع يثني صلويه، والصلا مغرز الذنب من الفرس، والاثنان صلوان، والمصلي تالي السابق؛ لأن رأسه عند صلوه. ذكر هذا القرطبي في تفسيره.
وقد ذكر المعنى الثاني في الكشاف هذا المعنى اللغوي. وأما المعنى الشرعي، فهو هذه الصلاة التي هي ذات الأركان، والأذكار.
وقد اختلف أهل العلم هل هي مبقاة على أصلها اللغوي أو موضوعة وضعاً شرعياً ابتدائياً. فقيل بالأوّل، وإنما جاء الشرع بزيادات هي الشروط والفروض الثابتة فيها.
وقال قوم بالثاني.
والرزق عند الجمهور ما صلح للانتفاع به حلالاً كان أو حراماً خلافاً للمعتزلة، فقالوا: إن الحرام ليس برزق، وللبحث في هذه المسألة موضع غير هذا. والإنفاق: إخراج المال من اليد، وفي المجيء ب (من) التبعيضية ههنا نكتة سرية هي الإرشاد إلى ترك الإسراف.
وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن إسحاق عن ابن عباس في قوله: {يُقِيمُونَ الصلاة} قال: الصلوات الخمس {وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ} قال: زكاة أموالهم.
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة أن إقامة الصلاة: المحافظة على مواقيتها ووضوئها، وركوعها، وسجودها {وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ} قال: أنفقوا في فرائض الله التي افترض عليهم في طاعته وسبيله.
وأخرج ابن المنذر عن سعيد بن جبير نحوه.
وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود في قوله: {وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ} قال: هي نفقة الرجل على أهله.
وأخرج ابن جرير عن الضحاك قال: كانت النفقات قربات يتقربون بها إلى الله عزّ وجل على قدر ميسورهم وجهدهم حتى نزلت فرائض الصدقات في سورة براءة هنّ الناسخات المبينات.
واختار ابن جرير أن الآية عامة في الزكاة والنفقات وهو الحق من غير فرق بين النفقة على الأقارب وغيرهم وصدقة الفرض والنفل وعدم التصريح بنوع من الأنواع التي يصدق عليها مسمى الإنفاق يشعر أتمّ إشعار بالتعميم.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8